فصل: سورة إبراهيم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (43):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [43].
{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} فإنه أظهر على رسالتي، من الحجج القاطعة والبينات الساطعة، وما فيه مندوحة عن شهادة شاهد آخر. قيل: جعل هذا شهادة- وهو فعل والشهادة قول- على سبيل الاستعارة؛ لأنه يغني عن الشهادة بل هو أقوى. انتهى. ولا يخفى أن الشهادة أعم من القول والفعل. على أن المراد من تلك الججج هي آيات القرآن والذكر الحكيم، وهي كلامه تعالى، وقد قال تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي} [يونس: 53].
وقوله تعالى: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} أي: ومن هو من علماء أهل الكتاب فإنهم يجدون صفة النبي صلى الله عليه وسلم ونعته في كتابهم من بشارات الأنبياء به. كما قال تعالى: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} [الأعراف: 157] وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ} [الشعراء: 197].
ويروى عن مجاهد أنه عنى بـ: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} عبد الله بن سلام. ونوقش بأن السورة مكية، وإسلامه كان بالمدينة. وأجاب البعض بأن بعض السور المكية ربما وجد في مدني وبالعكس، وكأن هذه الآية من ذلك.
وقد روى الحافظ أبو نعيم الأصفهاني في دلائل النبوة: أن عبد الله بن سلام أسلم قبل الهجرة، حيث رحل إلى مكة قبلها، واستيقن نبوته صلوات الله عليه. ثم آب إلى المدينة وكتم إسلامه إلى أن كانت الهجرة. والله أعلم.

.سورة إبراهيم:

بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآية رقم (1):

القول في تأويل قوله تعالى: {الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [1].
{الَر كِتَابٌ} خبر لـ: {الر} على كونه مبتدأ. أو خبر لمحذوف على كونه خبراً لمضمر، أو مسروداً على نمط التعديد. وقوله تعالى: {أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} صفة له: {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} أي: من الضلال إلى الهدى: {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} أي: أمره. وقوله تعالى: {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} بدل من قوله: {إِلَى النُّورِ} بتكرير العامل. أو مستأنف، كأنه قيل: إلى أي: نور؟ فقيل: {إِلَى صِرَاطِ} إلخ و{الْعَزِيزِ} الذي لا يغالب ولا يمانع بل هو القاهر القادر. و{الْحَميدِ} المحمود في أمره ونهيه لإنعامه فيهما بأعظم النعم.

.تفسير الآية رقم (2):

القول في تأويل قوله تعالى: {اللّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [2].
{اللّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} قرئ لفظ الجلالة بالرفع على الابتداء وخبره ما بعده. أو على الخبرية لمحذوف. وقرئ بالجر، عطف بيان لـ: {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}: {وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ} أي: بما أنزلناه إليك: {مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} يوم القيامة وهو عذاب النار.

.تفسير الآية رقم (3):

القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ} [3].
{الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ} أي: يؤثرونها عليها: {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ} بتعويق الناس عن الإيمان: {وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} أي: يصفونها بالانحراف عن الحق والصواب، أو يبغون أهلها أن يعوجوا بالردة، أو يبغون لها اعوجاجاً، أي: يطلبون أن يروا فيها عوجاً قادحاً، على الحذف والإيصال: {أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ} أي: ضلوا عن طريق الحق ووقفوا دونه بمراحل، والبعد في الحقيقة للضال نفسه، وصف به فعله للمبالغة بجعل الضلال نفسه ضالاً. وفي إيثار الظرف على أولئك ضالون ضلالاً بعيداً دلالة على تمكنهم فيه، باشتماله عليهم اشتمال المحيط على المحاط، مبالغة في إثبات وصف الضلال. وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (4):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [4].
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} أي: ليفقهوا عنه ما يدعوهم إليه، فلا يكون لهم حجة على الله ولا يقولوا: لم نفهم ما خوطبنا به كما قال: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} [فصلت: من الآية 44].
فإن قلت: لم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العرب وحدهم، وإنما بعث إلى الناس جميعاً: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [الأعراف: من الآية 158]، بل إلى الثقلين وهم على ألسنة مختلفة. فإن لم تكن للعرب حجة، فلغيرهم الحجة. وإن لم تكن لغيرهم حجة، فلو نزل بالعجمية لم تكن للعرب حجة أيضاً؟
قلت: لا يخلو إما أن ينزل بجميع الألسنة أو بواحد منها، فلا حاجة إلى نزوله بجميع الألسنة؛ لأن الترجمة تنوب عن ذلك وتكفي التطويل، فبقي أن ينزل بلسان واحد فكان أولى الألسنة لسان قوم الرسول؛ لأنهم أقرب إليه. فإذا فهموا عنه وتبينوه وتنوقل عنهم وانتشر، قامت التراجم ببيانه وتفهيمه، كما ترى الحال وتشاهدها من نيابة التراجم في كل أمة من أمم العجم، مع ما في ذلك من اتفاق أهل البلاد المتباعدة والأقطار المتنازحة والأمم المختلفة والأجيال المتفاوتة على كتاب واحد، واجتهادهم في تعلم لفظه وتعلم معانيه، وما يتشعب من ذلك من جلائل الفوائد، وما يتكاثر في إتعاب النفوس وكد القرائح فيه، من القرب والطاعات المفضية إلى جزيل الثواب، ولأنه أبعد من التحريف والتبديل وأسلم من التنازع والاختلاف، ولأنه لو نزل بألسنة الثقلين كلها مع اختلافها وكثرتها، وكان مستقلاً بصفة الإعجاز في كل واحدٍ منها، وكلم الرسول العربي كل أمة بلسانها، كما كلم أمته التي هو منها يتلوه عليهم معجزاً؛ لكان ذلك أمراً قريباً من الإلجاء. ومعنى: {بِلِسَانِ قَوْمِهِ} بلغة قومه- كذا في الكشاف-.
وقال بعض المحققين: يقول قائل: ألا تدل هذه الآية على أن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كانت للعرب خاصة؟ نقول: لا؛ لأنه جرت سنة الله أن يختار أمة واحدة ويعدها لتهذيب الأمم الأخرى، كما يعد فرداً واحداً منها لتهذيب سائر أفرادها. ولما كانت الأمة العربية هي المختارة لتهذيب الأمم وتعديل عوجها وإقامة منار العدل في ذلك العالم المظلم، فقد وجب أن التهذيب الإلهي ينزل بلغتها خاصة حتى تستعيد وتتهيأ لأداء وظيفتها. وقد أتم الله نعمته عليها، فقامت بما عهد إليها بما أدهش العالم أجمع، ولله في خلقه شؤون.
تنبيه:
استدل بالآية من ذهب إلى أن اللغات اصطلاحية. قال: لأنها لو كانت توقيفية لم تعلم إلا بعد مجيء الرسول، والآية صريحة في علمها قبله.
وقوله تعالى: {فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ} أي: لمباشرته أسبابه المؤدية إليه، أو يخذله ولا يلطف به لعلمه أنه لا ينجع فيه الإلطاف: {وَيَهْدِي مَن يَشَاء} لما فيه من الإنابة والإقبال إلى الحق. والفاء فصيحة، كأنه قيل: فبينوه، فأضل الله من شاء إضلاله وهدى من شاء. والحذف للإيذان بأن مسارعة كل رسول إلى ما أمر به، وجريان كل من أهل الخذلان والهداية على سنته، أمر محقق غني عن الذكر والبيان: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي: فلا يغالب، ولا يقضي إلا بما فيه الحكمة.
ثم أشير إلى تفصيل ما أجمل في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} بقوله سبحانه:

.تفسير الآية رقم (5):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [5].
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ} أي: أنذرهم بوقائعه التي وقعت على الأمم قبلهم، كقوم نوح ولوط. ومنه: أيام العرب؛ لحروبها وملاحمها؛ لأنها تعظم بها الأيام. وقيل: أيامه: نعماؤه عليهم. فتكون الآية بعدها تفصيلاً لها. وقيل: هي أعم من النعماء والبلاء. والوجه الأول أولى فيما أراه؛ لاختصاص كل آية بمقام، والتأسيس خير من التأكيد. وفي الالتفات من التكلم إلى الغيبة، بالإضافة إلى الاسم الجليل، إيذان بفخامة شأنها. قال أبو بكر ابن العربي: هذه الآية في الوعظ المرقق للقلوب.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي: في التذكير بها: {لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أي: يصبر على بلائه ويشكر نعماءه. فإذا سمع بما أنزل الله من البلاء على الأمم، أو أفاض عليهم من النعم، تنبه على ما يجب عليه من الصبر والشكر. وقيل: أراد لكل مؤمن لأن الشكر والصبر عنوان المؤمن. وتقديم الصبار على الشكور لتقدم متعلق الصبر- أعني الإيمان على متعلق الشكر- أعني النعماء- وكون الشكر عاقبة الصبر.

.تفسير الآية رقم (6):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} [6].
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} أي: يبغونكم إياه: {وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} أي: المولودين صغاراً: {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} أي: يبقونهن في الحياة: {وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} الإشارة إلى فعل آل فرعون.. ونسبته إليه تعالى للخلق أو الإقدار والتمكين. قيل: كون قتل الأبناء، ابتلاء ظاهر. وأما استحياء النساء، وهن البنات أي: استبقاؤهن، فلأنهم كانوا يستخدمونهن ويفرقون بينهن وبين الأزواج، أو لأن بقاءهن دون البنين رزية في نفسه كما قيل:
ومن أعظم الرزء فيما أرى ** بقاء البنات وموت البنينا

ويجوز أن تكون الإشارة إلى الإلجاء من ذلك. والبلاء: الابتلاء بالنعمة، وهو بلاء عظيم.
قال الزمخشري: البلاء يكون ابتلاء بالنعمة والمحنة جميعاً. قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: من الآية 35]، وقال زهير:
فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو

ولذا جوز أن تكون الإشارة إلى جميع ما مرَّ، الشامل للنعمة والنقمة.
لطيفة:
أشار أهل المعاني إلى نكتة مجيء: {وَيُذَبِّحُونَ} هنا بالواو، وفي سورة البقرة: {يُذَبِّحُون} [البقرة: من الآية 49]، وفي الأعراف: {يُقَتِّلُونَ} [الأعراف: من الآية 141]، بدونها. والقصة واحدة- بأنه حيث طرح الواو قصد تفسير العذاب وبيانه-، فلم يعطف لما بينهما من كمال الاتصال. وحيث عطف- كما هنا- لم يقصد ذلك. والعذاب، إن كان المراد منه الجنس، فالتذبيح، لكونه أشد أنواعه، عطف عليه عطف جبريل على الملائكة، تنبيهاً على أنه لشدته كأنه ليس من ذلك الجنس. وإن كان المراد به غيره، كاسترقاقهم واستعمالهم في الأعمال الشاقة، فهما متغايران، والمحل محل العطف. وجوز أيضاً كون العطف هنا للتفسير وكأن التفسير- لكونه أوفى بالمراد وأظهر- بمنزلة المغاير فلذا عطف.
وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (7):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [7].
{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ} أي: آذن وأعلم إعلاماً بليغاً- من جملة ما قال موسى لقومه-: {لَئِن شَكَرْتُمْ} أي: نعمه، بصرفها إلى ما خُلقت له. كالعقل إلى تصحيح الاعتقاد فيه واستعمال سائر النعم بمقتضاه: {لأَزِيدَنَّكُمْ} أي: من النعم: {وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} فيصيبكم منه ما يسلب تلك النعم ويحل أشد النقم.

.تفسير الآية رقم (8):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [8].
{وَقَالَ مُوسَى} أي: لقومه: {إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} أي: غني عن شكر عباده، المحمود بأجلّ المحامد. وإن كفره من كفره. وهو تعليل لما حذف من جواب {إن} أي: إن تكفروا لم يرجع وباله إلا عليكم، فإن الله لغني عن شكر الشاكرين.
وفي صحيح مسلم عن أبي ذر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: أنه قال: «يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً. يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك في ملكي شيئاً. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخل البخر» فسبحانه من غني حميد.
وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (9):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللّهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [9].
{أَلَمْ يَأْتِكُمْ} أي: في مؤاخذة من كفر: {نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ} أي: مع كثرتهم: {وَعَادٍ} أي: مع غاية قوتهم: {وَثَمُودَ} مع كثرة تحصنهم وصنائعهم: {وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللّهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ}.
قال ابن جرير: هذا من تمام قول موسى لقومه، يعني: وتذكاره إياهم بأيام الله بانتقامه من الأمم المكذبة بالرسل.
قال ابن كثير: وفيما قال ابن جرير نظر، والظاهر أنه خبر مستأنف من الله تعالى لهذه الأمة، فإنه قد قيل: إن قصة عاد وثمود ليست في التوراة، فلو كان هذا من كلام موسى لقومه لقصَّه عليهم، ولا شك حينئذ أن تكون هاتان القصتان في التوراة، والله أعلم.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللّهُ} جملة من مبتدأ وخبر وقعت اعتراضاً، أو عطف {الذين} على قوم نوح، و{لاَ يَعْلَمُهُمْ} إلخ اعتراض، ومعنى الاعتراض على الثاني: ألم يأتكم أنباء الجم الغفير الذي لا يحصى كثرة فتعتبروا بها؟ إن في ذلك لمعتبراً. وعلى الأول: فهو ترق، ومعناه: ألم يأتكم نبأ هؤلاء ومن لا يحصى بعدهم؟ كأنه يقول: دع التفصيل فإنه لا مطمع فيه، وفيه لطف لإيهام الجمع بين الإجمال والتفصيل.
وقوله تعالى: {فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} يحتمل الأيدي والأفواه أن يكونا الجارحتين المعروفتين. وأن يكونا من مجاز الكلام. وفي الأول وجوه:
أي: ردوا أيديهم في أفواههم فعضوها غيظاً وضجراً مما جاءت به الرسل، كقوله: {عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} [آل عِمْرَان: من الآية 119]، أو وضعوها على أفواههم ضحكاً واستهزاءً كمن غلبه الضحك. أو وضعوها على أفواههم مشيرين بذلك إلى الأنبياء أن يكفوا ويسكتوا. أو أشاروا بأيديهم إلى أفواه الرسل أن اسكتوا. و{في} بمعنى إلى أو وضعوا أيديهم على أفواه الرسل منعاً لهم من الكلام، أو أنهم أخذوا أيدي الرسل ووضعوها على أفواههم ليقطعوا كلامهم. ومن بالغ في منع غيره من الكلام، فقد يفعل به ذلك. أو أشاروا بأيديهم إلى جوابهم وهو قولهم: {إِنَّا كَفَرْنَا} أي: هذا جوابنا الذي نقوله بأفواهنا، والمراد إشارتهم إلى كلامهم كما يقع في كلام المتخاطبين، أنهم يشيرون إلى أن هذا هو الجواب ثم يقررونه، أو يقررون ثم يشيرون بأيديهم إلى أن هذا هو الجواب. قيل: وهو أقوى الوجوه المتقدمة؛ لأنهم لما حاولوا الإنكار على الرسل كل الإنكار، جمعوا في الإنكار بين الفعل والقول. ولذا أتى بالفاء تنبيهاً على أنهم لم يمهلوا، بل عقبوا دعوتهم بالتكذيب. وفي تصديرهم الجملة بـ أن ومواجهة الرسل بضمائر الخطاب وإعادة ذلك مبالغة في التأكيد.
وفي الثاني- أعني المعنى المجازي- وجوه:
قال أبو مسلم الأصفهاني: المراد باليد ما نطقت به الرسل من الحجج، وذلك لأن إسماع الحجة إنعام عظيم، والإنعام يسمى يداً، يقال: لفلان عندي يد، إذا أولاه معروفاً. وقد تذكر اليد والمراد منها صفقة البيع والعقد، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: من الآية 10]. فالبينات التي كان الأنبياء عليهم السلام يذكرونها ويقررونها نعمٌ وأيادٍ، وأيضاً العهود التي كانوا يأتون بها مع القوم أيادٍ، وجمع اليد في العدد القليل هو الأيدي، وفي العدد الكثير الأيادي. فثبت أن بيانات الأنبياء عليهم السلام وعهودهم صح تسميتها بالأيدي. وإذا كانت النصائح والعهود إنما تظهر من الفم، فإذا لم تقبل صارت مردودة إلى حيث جاءت، ونظير قوله تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [النور: من الآية 15]، فلما كان القبول تلقياً بالأفواه عن الأفواه كان الدفع رداً في الأفواه. انتهى.
وفي الرازي تتمة الأوجه فانظرها إن شئت.
قال في العناية: فإن قلت: قولهم: {إِنَّا كَفَرْنَا} جزم بالكفر لاسيما وقد أكد بـ إن، فقولهم: {وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ} ينافيه، قلت: أجيب بأن الواو بمعنى أو، أي: أحد الأمرين لازم وهو: إنا كفرنا جزماً فإن لم نجزم فلا أقل من أن نكون شاكين فيه. وأيا ما كان، فلا سبيل إلى الإقرار. وقيل: إن الكفر عدم الإيمان عمن هو من شأنه، فكفرنا بمعنى لم نصدق، وذلك لا ينافي الشك، أو متعلق الكفر الكتب والشرائع، ومتعلق الشك وما يدعونهم إليه من التوحيد مثلاً. انتهى.
أي: فلا ينافي شكهم في ذلك كفرهم القطعي بالأول.
وقوله تعالى: {مُرِيبٍ} بمعنى موقع في الريبة، من أرابه أوقعه فيها، أو ذي ريبة، من أراب: صار ذا ريبة وهي صفة مؤكدة.